فصل: قال القرطبي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال القرطبي:

قوله تعالى: {وَأَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ} أي واذكر أيوب إذ نادى ربه.
{أَنِّي مَسَّنِيَ الضر} أي نالني في بدني ضرّ وفي مالي وأهلي.
قال ابن عباس: سمي أيوب لأنه آب إلى الله تعالى في كل حال.
وروي أن أيوب عليه السلام كان رجلًا من الروم ذا مال عظيم، وكان برًا تقيًا رحيمًا بالمساكين، يكفل الأيتام والأرامل، ويكرم الضيف، ويبلغ ابن السبيل، شاكرًا لأنعم الله تعالى، وأنه دخل مع قومه على جبار عظيم فخاطبوه في أمر، فجعل أيوب يلين له في القول من أجل زرع كان له فامتحنه الله بذهاب ماله وأهله، وبالضر في جسمه حتى تناثر لحمه وتدوّد جسمه، حتى أخرجه أهل قريته إلى خارج القرية، وكانت امرأته تخدمه.
قال الحسن: مكث بذلك تسع سنين وستة أشهر.
فلما أراد الله أن يفرّج عنه قال الله تعالى له: {اركض بِرِجْلِكَ هذا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ} [ص: 42] فيه شفاؤك، وقد وهبت لك أهلك ومالك وولدك ومثلهم معهم.
وسيأتي في ص ما للمفسرين في قصة أيوب من تسليط الشيطان عليه، والرد عليهم إن شاء الله تعالى.
واختلف في قول أيوب: {مَسَّنِيَ الضر} على خمسة عشر قولًا: الأول: أنه وثب ليصلي فلم يقدر على النهوض فقال: {مَسَّنِيَ الضر} إخبارًا عن حاله، لا شكوى لبلائه؛ رواه أنس مرفوعًا.
الثاني: أنه إقرار بالعجز فلم يكن منافيًا للصبر.
الثالث: أنه سبحانه أجراه على لسانه ليكون حجة لأهل البلاء بعده في الإفصاح بما ينزل بهم.
الرابع: أنه أجراه على لسانه إلزامًا له في صفة الآدمي في الضعف عن تحمل البلاء.
الخامس: أنه انقطع الوحي عنه أربعين يوما فخاف هجران ربه فقال: {مَسَّنِيَ الضر}.
وهذا قول جعفر بن محمد.
السادس: أن تلامذته الذين كانوا يكتبون عنه لما أفضت حاله إلى ما انتهت إليه محوا ما كتبوا عنه، وقالوا: ما لهذا عند الله قدر؛ فاشتكى الضر في ذهاب الوحي والدين من أيدي الناس.
وهذا مما لم يصح سنده.
والله أعلم؛ قاله ابن العربي.
السابع: أن دودة سقطت من لحمه فأخذها وردها في موضعها فعقرته فصاح {مَسَّنِيَ الضر} فقيل: أعلينا تتصبر.
قال ابن العربي: وهذا بعيد جدًّا مع أنه يفتقر إلى نقل صحيح، ولا سبيل إلى وجوده.
الثامن: أن الدود كان يتناول بدنه فصبر حتى تناولت دودة قلبه وأخرى لسانه، فقال: {مسَّنِي الضُّرُّ} لاشتغاله عن ذكر الله.
قال ابن العربي: وما أحسن هذا لو كان له سند ولم تكن دعوى عريضة.
التاسع: أنه أبهم عليه جهة أخذ البلاء له هل هو تأديب، أو تعذيب، أو تخصيص، أو تمحيص، أو ذُخر أو طهر، فقال: {مَسَّنِيَ الضُّرُّ} أي ضرّ الإشكال في جهة أخذ البلاء.
قال ابن العربي: وهذا غلوّ لا يحتاج إليه.
العاشر: أنه قيل له سل الله العافية فقال: أقمت في النعيم سبعين سنة وأقيم في البلاء سبع سنين وحينئذٍ أسأله فقال: {مَسَّنِيَ الضُّرُّ}.
قال ابن العربي: وهذا ممكن ولَكِنه لم يصح في إقامته مدّةٌ خبرٌ ولا في هذه القصة.
الحادي عشر: أن ضره قول إبليس لزوجه اسجدي لي فخاف ذهاب الإيمان عنها فتهلك ويبقى بغير كافل.
الثاني عشر: لما ظهر به البلاء قال قومه: قد أضر بنا كونه معنا وقذره فليخرج عنا، فأخرجته امرأته إلى ظاهر البلد؛ فكانوا إذا خرجوا رأوه وتطيروا به وتشاءموا برؤيته، فقالوا: ليبعد بحيث لا نراه.
فخرج إلى بعدٍ من القرية، فكانت امرأته تقوم عليه وتحمل قوته إليه.
فقالوا: إنها تتناوله وتخالطنا فيعود بسببه ضره إلينا.
فأرادوا قطعها عنه؛ فقال: {مَسَّنِيَ الضُّرُّ}.
الثالث عشر: قال عبد الله بن عبيد بن عمير: كان لأيوب أخوان فأتياه فقاما من بعيد لا يقدران أن يدنوا منه من نتن ريحه، فقال أحدهما: لو علم الله في أيوب خيرًا ما ابتلاه بهذا البلاء؛ فلم يسمع شيئًا أشد عليه من هذه الكلمة؛ فعند ذلك قال: {مَسَّنِيَ الضُّرُّ} ثم قال: اللهم إن كنت تعلم أني لم أبت شبعان قط وأنا أعلم مكان جائع فصدقني فنادى مناد من السماء أن صدق عبدي وهما يسمعان فخرّا ساجدين.
الرابع عشر: أن معنى {مَسَّنِي الضُّرُّ} من شماتة الأعداء؛ ولهذا قيل له: ما كان أشد عليك في بلائك؟ قال شماتة الأعداء.
قال ابن العربي: وهذا ممكن فإن الكليم قد سأله أخوه العافية من ذلك فقال: {إِنَّ القوم استضعفوني وَكَادُواْ يَقْتُلُونَنِي فَلاَ تُشْمِتْ بِيَ الأعداء} [الأعراف: 150].
الخامس عشر: أن امرأته كانت ذات ذوائب فعرفت حين منعت أن تتصرف لأحد بسببه ما تعود به عليه، فقطعت ذوائبها واشترت بها ممن يصلها قوتًا وجاءت به إليه، وكان يستعين بذوائبها في تصرفه وتنقله، فلما عدمها وأراد الحركة في تنقله لم يقدر قال: {مَسَّنِيَ الضر}.
وقيل: إنها لما اشترت القوت بذوائبها جاءه إبليس لعنه الله في صفة رجل وقال له: إن أهلك بغت فأخذت وحلق شعرها.
فحلف أيوب أن يجلدها؛ فكانت المحنة على قلب المرأة أشد من المحنة على قلب أيوب.
قلت: وقول سادس عشر: ذكره ابن المبارك: أخبرنا يونس بن يزيد عن عقيل عن ابن شهاب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر يوما أيوب النبي صلى الله عليه وسلم وما أصابه من البلاء؛ الحديث.
وفيه أن بعض إخوانه ممن صابره ولازمه قال: يا نبي الله لقد أعجبني أمرك وذكرته إلى أخيك وصاحبك، أنه قد ابتلاك بذهاب الأهل والمال وفي جسدك، منذ ثمانية عشرة سنة حتى بلغتَ ما ترى؛ ألا يرحمك فيكشف عنك! لقد أذنبت ذنبًا ما أظن أحدًا بلغه! فقال أيوب عليه السلام: ما أدري ما يقولان غير أن ربي عز وجل يعلم أني كنت أمر على الرجلين يتزاعمان وكل يحلف بالله أو على النفر يتزاعمون فأنقلب إلى أهلي فأكفر عن أيمانهم إرادة ألا يأثم أحد ذَكَره ولا يذكره أحد إلا بالحق فنادى ربه {أَنِّي مَسَّنِيَ الضر وَأَنتَ أَرْحَمُ الراحمين} وإنما كان دعاؤه عَرْضًا عرضه على الله تبارك وتعالى يخبره بالذي بلغه، صابرًا لما يكون من الله تبارك وتعالى فيه. وذكر الحديث.
وقول سابع عشر: سمعته ولم أقف عليه أن دودة سقطت من جسده فطلبها ليردّها إلى موضعها فلم يجدها فقال: {مَسَّنِيَ الضُّرُّ} لما فقد من أجر ألم تلك الدودة، وكان أراد أن يبقى له الأجر موفرًا إلى وقت العافية، وهذا حسن إلا أنه يحتاج إلى سند.
قال العلماء: ولم يكن قوله: {مَسَّنِيَ الضُّرُّ} جزعا؛ لأن الله تعالى قال: {إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا} [ص: 44] بل كان ذلك دعاء منه، والجزع في الشكوى إلى الخلق لا إلى الله تعالى، والدعاء لا ينافي الرضا.
قال الثعلبي: سمعت أستاذنا أبا القاسم بن حبيب يقول؛ حضرت مجلسًا غاصًا بالفقهاء والأدباء في دار السلطان، فسئلت عن هذه الآية بعد إجماعهم على أن قول أيوب كان شكاية وقد قال الله تعالى؛ {إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا} [ص: 44] فقلت: ليس هذا شكاية وإنما كان دعاء؛ بيانه {فاستجبنا لَهُ} والإجابة تتعقب الدعاء لا الاشتكاء.
فاستحسنوه وارتضوه.
وسئل الجنيد عن هذه الآية فقال: عرّفه فاقة السؤال ليمنّ عليه بكرم النّوال.
قوله تعالى: {فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِن ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَّعَهُمْ} قال مجاهد وعكرمة قيل لأيوب صلى الله عليه وسلم: قد آتيناك أهلك في الجنة فإن شئت تركناهم لك في الجنة وإن شئت آتيناكهم في الدنيا.
قال مجاهد: فتركهم الله عز وجل له في الجنة وأعطاه مثلهم في الدنيا.
قال النحاس: والإسناد عنهما بذلك صحيح.
قلت: وحكاه المهدوي عن ابن عباس.
وقال الضحاك: قال عبد الله بن مسعود كان أهل أيوب قد ماتوا إلا امرأته فأحياهم الله عز وجل في أقل من طرف البصر، وآتاه مثلهم معهم.
وعن ابن عباس أيضًا: كان بنوه قد ماتوا فأحيوا له وولد له مثلهم معهم.
وقاله قتادة وكعب الأحبار والكلبي وغيرهم.
قال ابن مسعود: مات أولاده وهم سبعة من الذكور وسبعة من الإناث فلما عوفي نشروا له، وولدت له امرأته سبعة بنين وسبع بنات.
قال الثعلبي: وهذا القول أشبه بظاهر الآية.
قلت: لأنهم ماتوا ابتلاء قبل آجالهم حسب ما تقدم بيانه في سورة البقرة في قصة {الذين خَرَجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الموت} [البقرة: 243].
وفي قصة السبعين الذين أخذتهم الصعقة فماتوا ثم أُحيوا؛ وذلك أنهم ماتوا قبل آجالهم، وكذلك هنا والله أعلم.
وعلى قول مجاهد وعكرمة يكون المعنى: {وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ} في الآخرة {وَمِثْلَهُمْ مَّعَهُمْ} في الدنيا.
وفي الخبر: إن الله بعث إليه جبريل عليه السلام حين ركض برجله على الأرض ركضة فظهرت عين ماء حار، وأخذ بيده ونفضه نفضة فتناثرت عنه الديدان، وغَاص في الماء غوصة فنبت لحمه وعاد إلى منزله، ورد الله عليه أهله ومثلهم معهم، ونشأت سحابة على قدر قواعد داره فأمطرت ثلاثة أيام بلياليها جرادًا من ذهب.
فقال له جبريل: أشبعت؟ فقال: ومن يشبع من فضل الله! فأوحى الله إليه: قد أثنيت عليك بالصبر قبل وقوعك في البلاء وبعده، ولولا أني وضعت تحت كل شعرة منك صبرًا ما صبرت.
{رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا} أي فعلنا ذلك به رحمة من عندنا.
وقيل: ابتليناه ليعظم ثوابه غدًا.
{وذكرى لِلْعَابِدِينَ} أي وتذكيرًا للعباد؛ لأنهم إذا ذكروا بلاء أيوب وصبره عليه ومحنته له وهو أفضل أهل زمانه وطنوا أنفسهم على الصبر على شدائد الدنيا نحو ما فعل أيوب، فيكون هذا تنبيهًا لهم على إدامة العبادة، واحتمال الضرر.
واختلف في مدة إقامته في البلاء؛ فقال ابن عباس: كانت مدّة البلاء سبع سنين وسبعة أشهر وسبعة أيام وسبع ليال.
وهب: ثلاثين سنة.
الحسن: سبع سنين وستة أشهر.
قلت: وأصح من هذا والله أعلم ثماني عشرة سنة؛ رواه ابن شهاب عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ ذكره ابن المبارك وقد تقدّم.
قوله تعالى: {وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ}.
وهو أخنوخ وقد تقدّم {وَذَا الكفل} أي واذكرهم.
وخرج الترمذي الحكيم في نوادر الأصول وغيره من حديث ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «كان في بني إسرائيل رجل يقال له ذو الكفل لا يتورع من ذنب عمله فاتبع امرأة فأعطاها ستين دينارًا على أن يطأها فلما قعد منها مقعد الرجل من امرأته ارتعدت وبكت فقال: ما يبكيك قالت من هذا العمل والله ما عملته قط قال: أأكرهتك قالت: لا ولَكِن حملني عليه الحاجة قال: اذهبي فهو لك والله لا أعصي الله بعدها أبدًا ثم مات من ليلته فوجدوا مكتوبًا على باب داره إن الله قد غفر لذي الكفل» وخرجه أبو عيسى الترمذي أيضًا.
ولفظه عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يحدّث حديثًا لو لم أسمعه إلا مرة أو مرتين حتى عدّ سبع مرات لم أحدّث به ولَكِني سمعته أكثر من ذلك؛ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «كان ذو الكفل من بني إسرائيل لا يتورع من ذنب عمله فأتته امرأة فأعطاها ستين دينارًا على أن يطأها فلما قعد منها مقعد الرجل من امرأته ارتعدت وبكت فقال: ما يبكيك أأكرهتك قالت: لا ولَكِنه عمل ما عملته قط وما حملني عليه إلا الحاجة فقال: تفعلين أنت هذا وما فعلته اذهبي فهي لك وقال والله لا أعصي الله بعدها أبدًا فمات من ليلته فأصبح مكتوبًا على بابه إن الله قد غفر لذي الكفل» قال: حديث حسن.
وقيل إن اليسع لما كبر قال: لو استخلفت رجلًا على الناس حتى أنظر كيف يعمل.
فقال: من يتكفل لي بثلاث: بصيام النهار وقيام الليل وألا يغضب وهو يقضي؟ فقال رجل من ذرية العيص: أنا؛ فرده ثم قال مثلها من الغد؛ فقال الرجل: أنا؛ فاستخلفه فوفّى فأثنى الله عليه فسمي ذا الكفل؛ لأنه تكفل بأمر؛ قاله أبو موسى ومجاهد وقتادة.
وقال عمر بن عبد الرحمن بن الحارث وقال أبو موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم: «إن ذا الكفل لم يكن نبيًّا، ولَكِنه كان عبدًا صالحًا فتكفل بعمل رجل صالح عند موته، وكان يصلي لله كل يوم مائة صلاة فأحسن الله الثناء عليه» وقال كعب: كان في بني إسرائيل ملك كافر فمرّ ببلاده رجل صالح فقال: والله إن خرجت من هذه البلاد حتى أعرض على هذا الملك الإسلام.
فعرض عليه فقال: ما جزائي؟ قال: الجنة ووصفها له قال: من يتكفل لي بذلك؟ قال: أنا؛ فأسلم الملك وتخلى عن المملكة وأقبل على طاعة ربه حتى مات، فدفن فأصبحوا فوجدوا يده خارجة من القبر وفيها رقعة خضراء مكتوب فيها بنور أبيض: إن الله قد غفر لي وأدخلني الجنة ووفّى عن كفالة فلان؛ فأسرع الناس إلى ذلك الرجل بأن يأخذ عليهم الإيمان، ويتكفل لهم بما تكفل به للملك، ففعل ذلك فآمنوا كلهم فسمي ذا الكفل.
وقيل: كان رجلًا عفيفًا يتكفل بشأن كل إنسان وقع في بلاء أو تهمة أو مطالبة فينجيه الله على يديه.
وقيل: سمي ذا الكفل لأن الله تعالى تكفل له في سعيه وعمله بضعف عمل غيره من الأنبياء الذين كانوا في زمانه.
والجمهور على أنه ليس بنبي.
وقال الحسن: هو نبي قبل إلياس.
وقيل: هو زكريا بكفالة مريم.
{كُلٌّ مِّنَ الصابرين} أي على أمر الله والقيام بطاعته واجتناب معاصيه.
{وَأَدْخَلْنَاهُمْ فِي رَحْمَتِنا} أي في الجنة {إِنَّهُمْ مِّنَ الصالحين}. اهـ.